لم تكن إدارة عملية شريان الشمال شفافة ولا نزيهة، وكانت محاباة حركة التمرد لُحمتها وسداها. فحين نطلب غذاء عاجلاً للسكان في مناطق سيطرة الحكومة، يدخلوننا في مماحكات بيروقراطية؛ تبدأ بإرسال بعثة تقصي الحقائق Fact Finding Mission، ثم تعقبها بعثة عد المحتاجين Head Count ؛ وتمضي بضعة أسابيع ليرسلوا لنا ما يكفي لبضعة أسابيع.
وكانوا أحيانا يتحججون بالادعاء أن مدينة من مناطق سيطرة حكومتنا مجرد حامية عسكرية military garrison، بلا مواطنين، وهم يعلمون أن ذلك ليس صحيحاً.. لكنها تكتيكات المراوغة.
وكانت الاستجابة للخوارج فورية.
وعادة يقوم الخوارج باستقدام مواطنين من على بعد 25 كيلومتر ليحشدوهم يكثرون بهم سواد الناس يوم عد المحتاجين. ولذا كانت تصلهم من الإغاثات ما يفيض عن الحاجة. ويأخذون هذا الفائض يبيعونه في مدينة قولو اليوغندية؛ والخواجات يعرفون ويغضون الطرف، فعين الرضى عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ.
ومما أحمده لدكتور عشاري أحمد محمود خليل، الموظف حينئذ بمنظمة اليونيسيف، قيادته، مع آخرين، مشروع إعادة 3551 طفلاً كانت جندتهم حركة قرنق، أعادوهم إلى أسرهم ومجتمعاتهم المحلية.
وكان أولئك الصبية، بعضهم في الخامسة وأغلبيتهم أقل من 14 عاما، ومن بينهم كان يندس ضباط في العشرينات يتصنعون أنهم جنود أطفال، في ثمانية معسكرات ترعاها اليونيسيف UNICEF، بالاتفاق مع حركة قرنق. وقبلها كان يتم التعامي عن أن تلك كانت جريمة عالمية، خشية إغضاب حركة قرنق.
وكان دكتور عشاري هو الشمالي الوحيد، وغير عضو في حركة قرنق والعامل في مدينة رومبيك موظفاً في اليونسيف في عملية شريان الحياة، بعد أخذ اليونيسيف إذن خاص له من جون قرنق.
قال لي عشاري: إن تكليفه بمهمة إعادة الأطفال واجه صعوبات من داخل اليونيسيف نفسها، ومن عدة منظمات دولية، اعترضوا على خطته الخيالية لإعادة الأطفال إلى ذويهم خلال أسبوعين، بعد التخطيط الدقيق على مدى شهور، وكانت المنظمات تصر على بروتوكولات عقيمة رفضها عشاري، وأصر على إعادة الأطفال إلى ذويهم دون ما يسمى بمرحلة “تقفي أثر الأسر” family tracing، وكان ذلك يعتبر كفراً في تقديرهم!!!
لكن، رضخ الجميع للخطة لتماسكها.
وفعلاً تمت إعادة جميع الأطفال وإخلاء المعسكرات خلال أسبوعين، بعد التخطيط الدقيق على مدى خمسة شهور، بمشاركة فريق من أكثر من خمسين موظفا في اليونيسيف ومكتب منسق المشروع من الحركة الشعبية، وعشرات الأشخاص، بعضهم كلفوا بأخذ بعض الأطفال واحدا واحدا ومشيا على الأرجل.
ومن المضحكات في شأن دكتور عشاري، أن حركة التمرد ضاقت بجهوده ذرعاً فاشتكاه أليجا مالوك – مسؤول الإغاثة بالحركة وابن عم قرنق – مدعياً أنّ دكتور عشاري من أنصار الجبهة الإسلامية وطردوه من الجنوب!!!
وقد قال لي دكتور عشاري: إن 20 ألفاً من الأطفال كان دكتور رياك مشّار يجندهم فيما عُرف “بالجيش الأبيض”، وذلك بعلم المنظمات العاملة في شريان الحياة.
ولم يوفق دكتور عشاري في إقناع رياك مشار بإرجاعهم إلى ذويهم.
إنه لمن السذاجة الاعتقاد أن ما يسمى العمليات الإنسانية هي بالفعل إنسانية؛ لأن الحقائق تقول: إن شبكة المصالح والفساد يمتد من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية برئاسة الأمم المتحدة Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA) ليشمل الموظفين في المنظمات، وكبار مسؤولين في دول غربية ومسؤولين في البلاد التي تجري فيها عمليات الإغاثة المُدّعاة. وتفصيل ذلك يطول.
وقد تابعت منذ شهور الحرب الأولى انطلاق حملة قامت بها منظمات تتحدث عن مجاعة كُبرى؛ وكتبت أن وراء هذه الحملة أمراً، وربما كان تهيئة لعملية شريان حياة ثانية.
والمؤسف أن تلك النبوءة قد تحققت.. إذ أعلنت كليمنتين نكويتا سلامي المنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة بالأمس، أن الحكومة السودانية وافقت على دخول المساعدات الإنسانية إلى دارفور من تشاد عبر معبر الطينة الحدودي، ومن جنوب السودان عبر معبر الرنك الحدودي إلى كوستي بولاية النيل الأبيض. وأعرب كاميرون هدسون عن سعادته بهذا المسعى.
وأسفت أيضاً لمسارعة وزارة الخارجية بالموافقة، وهي حتماً موافقة جاءتها ممن هو أعلى.
لكن كان ينبغي على الخارجية أن تصمد في موقف معارض لخلق عملية شريان حياة ثانية؛ خاصةً أن لديها تجربة في متابعة عملية شريان الحياة الأولى؛ وهي على معرفة بمخازي وفشل يوناميد UNAMID.
ثم أنها تُدرك انتهاكات كل تلك العمليات لسيادتنا وموالاتها للحركات المتمردة ضد السودان.
وتدرك تدخلات يونتامس UNITAMS ومسؤولها ڤولكر بيرتس في شأننا الداخلي حتى طرده السودان.
والذي يثير العجب ويؤلم القلب أن تسمح السلطات بأن يكون مدخل الإغاثة تشاد، المقترفة جريمة العدوان ضد السودان بإتاحتها أراضيها لدولة الإمارات والتي أرسلت الإمارات عبرها عشرات الآلاف من المرتزقة التشاديين، وأكثر من مئتي طائرة محملة بالأسلحة والمؤن والعتاد الحربي، وكذا الأمر بشأن دولة جنوب السودان التي سمحت أيضا بتسهيل إرسال المرتزقة من جنوب السودان، بدعم من الإمارات، إلى السودان.
ولا يخفى على أحد فساد المسؤولين في هاتين الدولتين، وكونهم ألعوبة تعبث بهم الدول الغربية والإمارات.
وقد عانينا من تدفق الأسلحة والمرتزقة – والمرتزقة أشد خطراً من السلاح – والمركبات العسكرية عبر حدود هاتين الدولتين.. فكيف يستقيم أن نوافق أن تكونا معبراً لما يُدعى أنه إغاثة؟
ويعلم كل متابع أن حملة خلق عملية شريان حياة ثانية، نشطت بعد انكسارات مليشيا أولاد دقلو وداعميهم من قحت؛ بعد انتظام مئات ألوف السودانيين في سلك المقاومة الشعبية.
فكما أنقذوا حركة قرنق بالعملية الأولى فإنهم يسعون لإنقاذ مليشيا أولاد دقلو وقحت عبر عملية شريان حياة ثانية..
وكل هذا ليمكنوهم من رقاب السودانيين كَرّة ثانية.
سيدي سعادة الفريق البرهان:
قد هيَّؤوك لأمرٍ لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
وهل كان الهمل إلاّ مليشيا أولاد دقلو وجناحهم السياسي/ الإعلامي قحت.
ألا تراهم لجيشنا يكيدون، ولفظائع المليشيا يبررون، ثم في كل عاصمة يهيمون، ولكل سفارةٍ يتكففون ثم يسجدون؟!!!
فإن كنت لابد فاعلاً فإن المسؤولية تقتضيك أ inن تفرض المراقبة بواسطة فرق سودانية لكل شاحنات وطائرات الإغاثة قبل وصولها إلى السودان، ومرافقتها، بواسطة عدد كبير من الموظفين السودانيين يتم تعيينهم خصيصا لهذا الغرض، يحملون جوازات سفر دبلوماسية لتحصينهم.
وينبغي أن يكون هذا من شروطنا التي لا تنازل عنها.
📍السفير عبد الله الأزرق
—————————————
6مارس 2024