
دوماً ما تختلف الرؤى و ردودُ الأفعال حول الموضوعِ الواحد ، فتتباين تقديراتُنا و أحكامُنا؛ رفضاً و قبولاً ، أخذاً ورداً ، وهذا لا يعني أن آراءنا، و على اختلافها، تدور بين الصواب و الخطأ ، فقد تكون جميعها صحيحة أو العكس ، و إنما يرجع الاختلاف إلى تعدد زوايا النظر ، فإنْ كانت الفكرة صحيحة سليمة ضمن سياق ، فهي فاسدة باطلة ضمن سياق آخر ، إذن لا يمكن قبول موضوع أو فكرة أو رفضها على إطلاقها دون الرجوع إلى السياق الذي أنتجها و الإكراهات أو الإغراءات التي استدعتها ، بهذا نخلص إلى إن النظر من مختلف السياقات التي تستدعيها التغيرات المحيطة و المؤثرات المختلفة هو الذي يؤدي إلى تقبل الرأي و الرأي الآخر ..
و إذا اعتمدنا أنّ اختلاف زوايا النظر سببٌ لارتقاء عقول البشر فكلما عدَّد الناظر من زوايا نظره توسَّعت مداركُه و عظُمت معرفته ، إذ لابد لنا من تقبل وجهات النظر المخالفة و المختلفة و حسن الإنصات لها بل الاستمداد منها ، فمن اكتفى بزاوية نظر واحدة انكفأ و ضاقت نفسه و حرمها الاستفادة، و كما قالوا قديماً لا يعرف لغتَه من كان لا يعرفُ إلا لغتَه* ..
و لهذا فإنَّ كلَّ حوار مستعيضٍ عن كفاءة الاستماع بمساعي الإقناع هو حوار فارغ من الفائدة ، لا تلبث الأوضاع فيه أن تنزلق إلى المغالبة و الصراع ، فإن انتشر هذا الأسلوب أصيبت الثقافهُ العامةُ بتشوُّهات تعيقُ السيرَ و تُربك الخطوات و تقتلُ الإبداع ، فتصبح ثقافةً سجاليّةً تستمدُّ قيمتها و مشروعيتها من مقارعةِ الخصومِ فقط ، دون التفكيرِ في البحثِ عن طرقِ توسيع المشترَكات سواء أكانت وطنية أو إنسانية أو غيرها ، مما يؤدي إلى انحسار القدرة العقلية عن تحليل الأمور و إدراك بواطنها و فهمها فيما يسمى بظاهرة (ضيق الأفق) ..
نحن في ممارساتنا الحياتية عامة و السياسية على وجه الخصوص نقع دوماً في هذا الفخ ، فبعض القوى السياسية، لضيق أفقها السياسي ، تغرقُ في شبر من الماء و تعجزُ عن رؤية الخارطة الكلية ، نهجها في ذلك أنا أو الطوفان و كأنما ممارسة السياسية لديها لا تعدو سوى قبائل تنازع على غنائم و تنسى أو تتناسى أن هناك مشترَكات تجمعُها مع بعضها البعض ، كحبِّ الوطن و شعبه ، وتطويره و نمائه و سيادته ، و حفظ أمنه و أمانه ، أما المنافسة فلا تعني بالضرورة إقصاء الآخر أو تغييبه عن المشهد السياسي ، مرت علينا سنينٌ عجافٌ ذقنا فيها الأمرَّين ، لابد أن نخرج منها برؤية مشتركة تصبُّ في مصلحة الوطن، و كحد أدنى في كيفية الحفاظ عليه و إعماره و نهضته و معالجة آثار الحرب ، كل هذا يتطلب منا عزماً و قوة و تقبلاً للآخر و توسيع دائرة الأفق و إذكاء روح الوعي و التفكير الإيجابي ..
و أنا هنا أدعو قيادة التيار الإسلامي بوصفه أكبر الواجهات السياسية في البلاد و أكثرها قوةً و تنظيماً و حنكةً و درايةً ، و هو رائد في ذلك مستصحبين تجربته في الحوار الوطني كمثال ، أدعوه باسم الشعب السوداني أن يتبنى هذه الخطوة العظيمة و المهمة لتقوية الجبهة الداخلية الوطنية في هذه المرحلة الحرجة ، باعتبار أن الشعب بمختلف انتماءاته الفكرية والسياسية والعرقية أثبت وطنيته في هذه الحرب وكان ذلك إثراءً للساحة السياسية و ليس خصماً عليها، فإن الخطأ ليس في اختلاف المذاهب السياسية الوطنية و لكن الخطأ هو انسداد الأفق السياسي و انحساره بما يؤدي للفرقة و الاختلاف و التنازع و الصراع الذي يمنع الاستقرار و أن توسيع الآفاق يمهد للوفاق ..
و لنضع نصب أعيننا أن الوطن الحبيب يسعنا على اختلاف مشاربنا و افكارنا ، يكفي أن نجتمع على حبه و عشقه ، وان نتذكر ان السودان بعد الحرب ينتظر منا الكثير فلتتضافر جهودنا ، للبناء و الإعمار و لنستثمر في اختلافنا فهو بلا شك نعمة و ليس نقمة ..