الخرطوم لمن سمع صوت وردي العظيم آتيًا نديًا جزِلًا من مذياعٍ قديم :
“وطنا البي اسمك كتبنا ورطنا”، ولمن طالبهُ أستاذُ اللغةِ العربية بتلخيص رواية موسم الهجرة إلى الشمال؛ فشعر بأنه ممتلئ بالضياء حين قرأ سطر: “لكني حين أعانق جدي أُحس بالغنى كأنني نغمة من دقاتِ قلب الكون نفسه”.
الخرطوم لمن تسكَّع ليلًا في شوارعها، ولمن قطع المسافات في نهارٍ قائِظ مشيًا على الأقدام لأن جيبه فارغ من نقود .
الخرطوم لمن مشى في أسواقها ما بعد انفضاض السوق من الباعة، ورأى رجلًا طاعنًا في السن وقد طفر الدمعُ من عينيه وهو يسمع أولاد حاج الماحي ينشدون : “شوقك شوى الضمير.. أطراك مناي أطير. أنا حابك من صغير.. بريدك يا البشير” .. ثم يهمهمُ العجوز مع المادحين والإيقاع يمضي مسرعًا بجلال : “بسم الله يا قدير.. يا عالي يا كبير.. يا جابر الكسير.. دبرنا يا بصير” .
الخرطوم لمن رأى طوابي الأنصار الطينية العتيقة الشامخة مطلةً على النيل شاهدةً على البطولة . فعانق روحه الطهر والفداء .
الخرطوم لمن حكى له أباه عن جده أنه أتاها لأولِ مرةٍ على ظهرِ حمارٍ أبيض، وبعد أن تزوّج الجد أتتهُ الوفود المُهنِّئة على لواري البدفورد مسيرة ثلاث لياليٍ؛ معهم: الأطفال، والخراف، وأمتعتهم من الشنط الحديدية، والزوادة، وقربة من جلد الماعز يشربون منها الماء ويحملون من الهدايا: التمر، والسمن البلدي، وعسل النحل..
الخرطوم لمن ألِف مواقف مواصلاتها العامة المتسخة، والأرض من تحته مُبتلَّة سيِّئة الرائحة وهو يعبرُ الزحام مسرعًا في جاكسون أو الاستاد أو المحطة الوسطى أو الشهداء.. تحاصره الضوضاء الصادرة من مكبرات أصوات الفريشة: “عصير مُركَّز واحد جنيه” ، “بنطلون خمسين جنيه” ، “الطماطم.. الليمون.. العجور”..
الخرطوم لمن شهد أعياد الإستقلال المجيدة بها، والأعلام النظيفة تُرفرفُ عاليًا تحت سمائها.. والعطبراوي يشقُ صدره ويقتحمه بصوتٍ جهورٍ أجشّ: “مرحبتين بلدنا حبابا.. حباب النيل حباب الغابة.. ياها ديارنا نحن اصحابا.. نهوى عديلا ونرضى صعابا” .. “نحن شعارنا حب وصداقة.. نحن شعارنا حب وصداقة” .
الخرطوم لمن غزت روحه الرهبة وهو طفل يرى أشجار اللبخ والجميز العالية، فهاله ظلها الموفور، وضخامة جذعها، وعلوها الشاهق.. وهو على مقربةٍ من القصر الجمهوري يرى اثنين من ديدبانات القصر .
الخرطوم لمن مشى راجلًا بين معمارِ المدينة القديمة الي السوق الخيري، الكشافة البحرية شارع النيل . ومن سان جيمس غربًا حتى ساحة أتنيه ومطعم باب كوستا المطل على شارع الجمهورية، وهو على مشارف شارع القصر “فكتوريا” يرى برندات السوق الأفرنجي . وإن انعطفت يسارًا بإمكانك السير تحت ظلال النيم المعمر . على الشارع: سينما كولوزيوم/ بنكي المزارع والفرنسي/ فندق المريديان/ مستشفى الخرطوم/ كلية الطب جامعة الخرطوم/ معمل استاك.. بعدها تبدأ قضبان السكة حديد بالظهور . والخرطوم 2 تُلوِّح لك من على البعد . وأنت تقطع كل تلك المسافة تشعر كما ولو أنك رأيت في أماكن مختلفة: أحمد المصطفى، والكاشف، وحسن عطيّة، وعثمان حسين، وأبو داؤود . وتحت أي نيمة أو لبخة أو ظل بناية كأنما أنت تلمح الفاضل سعيد، والدوش، والطيب محمد الطيب، وحسن نجيلة، والحلنقي، وإسماعيل حسن .
وإذا ما توغلّت جنوبًا ففي شوارع العمارات لا بد وأنك سترى جمال محمد أحمد، وأبو القاسم حاج حمد .
وهي بالطبع لمن حضر لياليها المشهودة وود اللمين يرتدي بدلة رمادية أنيقة، مع نظارته السميكة وفكه العلوي البارز مُمسكٌ بآلة العود.. يغني في حفل ساهر بنادي الضباط. وصوتهُ الشجي يشقُ عنان السماء. فرأى في الأمسية الوسيمة حسناوات المدينة وجلس على المدرجات الأسمنتية خلفه السكارى الحائرين . ومن لم يسكر بالعرق يومها.. سكر بالأنغام التي يرسلها أسامة بيكلو في الصولو الأخير ل”همسة شوق” إيذانًا بدخول الجنة !
الخرطوم لمن قضى سنوات دراسته الجامعية مقيمًا بداخلية الوسط أو ترهاقا.. فحظى باجتماع طيفٍ قومي واسع في مكان واحد فتقاسم معهم السكن ولقمة العيش وهموم الدراسة.. والجيب واحد ! وقضى أجمل الأوقات جيئةً وذهاباً من الداون تاون إلى نفق الجامعة، أو من هناك إلى شارع عثمان دقنة، وإن شاء انعطف إلى شارع النيل ورائحة طلع النيم في ليلةٍ صيفية يعفر أنفه .. والشوارعُ مُضاءةً بالبرتقالي الباهت .
الخرطوم لمن منحته الأقدار السعيدة أن يكون في حافلة أبو القدح، وهي تتحرك ببطء كعادتها على شارع المعونة، ليحظى وهو على مقربة من الكدرو أن يخرج عليه صوت النور الجيلاني كماردٍ من سماعة مشخشخة: “ﻓﻜﺮﻱ ﻣﺸﻐﻮﻝ بي صبية.. ﻭﺷﺎﻝ ﺍﻟﻨﻮﻡ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻴﺎ” ، ويغني الكورس برفقة الجيلاني وأسلاك المندلين المهتزة تدغدغ أذنيه ، وتشيل معاهم: “كدراوية.. كدراوية” .
الخرطوم لمن هبط على أمدرمان من كبري الحديد (السلاح الطبي)، ورأى حفنة من مزارعين على النيل، يعزقون الحشائش ويجرجرون حبل الواسوق في الصباح الباكر . ولمن امتلأت رئتيه بهواء أب روف ونسيمها الرطب العليل، حاملًا بين ذراته رائحة الشاف والطلح واللبان الدكر .
الخرطوم لمن اقْتنى كتابًا أو مجلدًا من الدار السودانية للكتب . وتشرّف بإلقاء السلام على رجلٍ خفيض الصوت، يعلو هامته الوقار والطيبة تجده مبتسمًا مطمئنًا بعمامته القديمة وجلابيته البيضاء . هو السيد/ عبد الرحيم مكاوي، صاحبُ الدار ومؤسسها ، عليه الرحمة والرضوان .
الخرطوم لمن تناول فطوره من الأسماك النيلية في الموردة أو جبل أولياء . الخرطوم لمن استمتع بقزقزة كيسٍ كبير من أجود حباتِ الفول السوداني، لدى “الحجَّات” اللائي تجدهن على رصيف شارع 15 العمارات . لكل واحدة منهن مظلة وتربيزة خشبية تتراص عليها بانتظام أكياس الفول والتسالي وحب القرع .
الخرطوم لمن شرِب القهوة على نيلها، فيأتيه مع غروب الشمس صوت غناء شعبي من غناء الحقيبة مع إيقاع الدربكة . ويسمع صياح لاعبو الورق من شلة أخرى.. تتداخل جميعُ تلك الأصوات مع صوت بابور لستر قادم من الضفة الأخرى .
الخرطوم لمن حضر حفل عركي على المسرح القومي.. “بخاف.. أنا بخاف” . وعركي حين يُرسلُ صوته تسري في جسدك شئٌ من قشعريرة محببة، ويُحدِثُ في روحك شئٌ من وجل !
الخرطوم لمن شهد على كفاحِ المتغرِّبين عن ديارهم وأوطانهم في سعيهم لكسب رزقهم بشرف وكد، لا سلبًا ولا عدوانا.. والنسوة الماجدات تقوم أركانُ البيتِ على أكتافهن في الغياب . وكتب ود الدابي في شأن ما قاسينهُ: “الكاتمو في جواي كتير متملك الجوف والعصب.. ما كنت دايري أقولو ليك.. لكن لسان الحال غلب” .
الخرطوم لمن فتح ديوان داره للآتين من الأرياف للتداوي وطلب العلم .
الخرطوم لمن لا يزالون مرابطين في بيوتهم “فالبيوتُ تموتُ إذا غابَ سُكانها..” .
وأخيرًا الخرطوم للجميع.. لجميعِ السودانيين إلا الجنجويدي المغولي اللقيط الذي اتاها غازيًا .
الجنجويدي اللقيط فقير الروح والأخيلة.. المجرد من كل خصلة خير لا يعرف شئ عن كل هذا . وهو على استعدادٍ لتدمير كل ذلك لأنه بلا انتماء للأرض . لذا فهي ليست له .
الخرطوم ليست للغرباء الهمج.. الخرطوم ليست للجنجويد البرابري من نسل المنحطين ممن نمى لحمهم من مال السحت.