
1
بعد انتهاء العزاء الذي أُقيم بالقاهرة قبل ثلاثة أيام، سألتُ صديقي محمد محمد خير: كيف كان العزاء؟
محضور يشهي الموت!!
… ومن حضر؟ فقال لي…
بل قل: من لم يحضر؟
كانت القاهرة، بل السودان كله، في خيمة العزاء.
يا سلام! ما أجمل وفاء السودانيين ساعات الرحيل؛ هو وفاء بلا رياء ولا مصلحة. هكذا، بقلب عامر بمحبة الناس، طوى عروة سِنِيَّ حياته، وغادر إلى السماوات العُلى، وهو – بإذن الله سبحانه – الآن في سِدْرٍ مَخْضُود، وظلٍ ممدود، وطلحٍ مَنضود، ونمارقَ مصفوفة، وزرابيَّ مبثوثة. وتلك مقامات يحبها وتليق به، وأخاله الآن يضحك ويقول لي: “والله يا ود الباز، الدنيا غاشاكم ساكت”.
2
قال الطيب صالح في رائعته “مريود” على لسان الطاهر ود الرواسي لصديقه محيميد: (الدنيا فيها غير اتنين: الصداقة والمحبة). ها أنت، يا سعادة الفريق، يا عروة، ترحل، وأكف المحبين ترفع لك بالدعاء، ممن تعرف وممن لا تعرف، وها هم أصدقاؤك يهبّون بالآلاف في قطر ومصر وأمريكا وكندا والسودان ودبي بالأمس لوداعك، وأنت تعرج إلى حيث مقامك بالفردوس، بإذن الله.
3
على ذكر الطيب صالح ورواياته… كنت قد قلت في المقال السابق إنني سأختار الزاوية التي قدّرتُ ألا أحد سيذكرها في تاريخ عروة، وأخشى أن تُهمَل ونحن نُسجّل تاريخ رجل أهدى لوطنه كل عمره، وأنجز في مجالات شتى، ولم يستبق شيئًا. وهي زاوية بصمته فيها أوضح من الشمس، ولكن لا أحد يراها، ولم يذكرها كاتب، لا في حياته، ولا الآن بعد رحيله. فما هي؟
4
بعد عام واحد من رحيل كاتبنا الكبير الطيب صالح (يوم الأربعاء 18 فبراير 2009)، تقدّمت شركة زين، وعلى رأسها وقتها الفريق الفاتح عروة، بمبادرة أدبية دولية لوضع الطيب صالح في مقدمة كتّاب الأدب العالميين، الذي يستحق أن يكون بينهم.
كان الطيب صالح قد غاب عن المنتدى النرويجي للكتاب الذي خصص للاحتفاء به وتكريمه لفريدته «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي اختيرت من بين مائة أثر أدبي، وجاء في الدعوة للمنتدى إنه أثّر على التاريخ الثقافي للعالم. المائة أثر أدبي انتقاها مائة أديب وشاعر، من بينهم أربعة من النوبليين، هم: وولي سونيكا (نيجيريا)، نادين غورديمر (جنوب أفريقيا)، ف. س. نايبول (ترينيداد)، شيموس هيني (إيرلندا). وكان المحكّمون المائة، في مجموعهم، يمثلون ثقافات العالم المتنوعة.”.كتب الحكاية صديقه منصور خالد في مقال بديع (الزين يغيب عن عرسه).
5
في العام 2010، أسّست شركة زين “جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي”، وهي مبادرة ثقافية أُطلقت تخليدًا لذكرى الأديب السوداني العالمي الطيب صالح. تهدف الجائزة كما تقول في ديباجتها ” إلى دعم وتشجيع الكُتّاب والمبدعين في العالم العربي، وتعزيز التواصل الثقافي بين السودان ومحيطه العربي والأفريقي والدولي”. وتُمنح الجائزة سنويًا في ثلاث فئات: الرواية، والقصة القصيرة، والدراسات النقدية. وقد شهدت بعض الدورات إدراج مجالات إضافية مثل المسرح والترجمة، مما يعكس تنوع الجائزة واهتمامها بمختلف أشكال الإبداع الأدبي.
لم يمضِ عام واحد حتى أصبحت جائزة الطيب صالح من أبرز الجوائز الأدبية في العالم العربي، واستقطبت مشاركات من كُتّاب من مختلف الدول، وساهمت في اكتشاف عشرات المواهب الجديدة وتقديمها إلى الساحة الأدبية. كما عزّزت الجائزة من مكانة السودان الثقافية، وأبرزت دوره في خارطة الأدب العربي.
6
كان يوم 18 فبراير وما بعده من كل عام عيدًا ثقافيًا في الخرطوم، إذ كانت لياليها تشتعل بالثقافة والأدب التي يؤمّها الأدباء والمفكرون المشاركون والمدعوون من كل أقطار العالم العربي. ولأول مرة منذ زمن طويل، يُذكر السودان مرتبطًا بإسهام ثقافي وفكري، وكان اسم السودان طيلة شهر فبراير من كل عام في واجهة الأخبار الثقافية في العالم.
7
قدّمت زين للثقافة، في عهد الفاتح عروة، ما عجز عنه كل مسؤولي الثقافة والإعلام خلال ثلاثين عامًا هي عمر الإنقاذ، ما عدا فترات متقطعة اعتلى فيها أمانة الثقافة كلٌّ من: أمين حسن عمر، وغازي صلاح، وسناء حمد، والسموأل خلف الله. تلك هي الفترات الوحيدة التي اعتنت فيها الإنقاذ بالعمل الثقافي، أما باقي سنواتها فكانت صحراء ثقافية.
6
قدّمت زين، من خلال جائزة الطيب صالح، للمكتبة السودانية عشرات الآلاف من الكتب، من خلال طباعة كل الكتب التي فازت بالجوائز، وظلّت توزعها مجانًا طيلة ثلاثة عشر عامًا. ورفدت زين كذلك المكتبة السودانية بمجموعة من الكتب والروايات والدراسات، ما لم يُقدَّم في تاريخ السودان خلال ربع قرن. هذا غير الكتب التي ساهمت زين في دعمها وطباعتها، وآخرها كتاب تاريخ ملوك سنار والحكم التركي المصري في السودان (901-1288هـ / 1504-1872م)، الذي حقّقه بروفيسور يوسف فضل (أمدّ الله في أيامه ونفعنا بعلمه)، وصدر في عام 2018، عن دار مدارك للطباعة والنشر.
7
قدّمت زين، تحت إدارة عروة، خدمة عظيمة للثقافة السودانية لم ينتبه لها أحد، ويجدر بي ذكر تلك المجموعة القائمة على جائزة الطيب صالح وفي مجلس إدارتها، وعلى رأسهم أستاذنا وتاج رأسنا علي شمو، وبرفقته ثلة من المثقفين والنقاد، إضافة لمسؤولين داخل زين حرصوا على استدامة الجائزة وفي وقتها سنويًا، وعلى رأسهم صديقي صالح محمد علي وتيم إدارته الرائعين.
8
وضع عروة بصمته في تاريخ السودان كضابط عسكري عظيم، ورجل مخابرات ذكي نفّذ أخطر المهام، ومقاتل شرس عرفته أدغال الجنوب، وسفير دولة قدّم أعظم الخدمات لوطنه في أحرج الأوقات، حين كان سفيرًا للسودان في الأمم المتحدة. وضع عروة بصمته في تاريخ القرن الأفريقي، حين ساهم في أخطر التحولات التي جرت فيه، وفي واحدة من أهم دوله، هي إثيوبيا.
اقتصاديًا، ساهم عروة من خلال قطاع الاتصالات بإعادة هيكلته، من خلال تطوير شركة زين، وصعد بها لتصبح شركة الاتصالات الأولى في السودان، وصعد بأرقام مشتركيها من مليون إلى 15 مليون مشترك، وفي وقت وجيز، حازت زين على أكثر من 60% من سوق الاتصالات في السوداني.
9
ثقافيًا، قدّم عروة خدمته العظيمة للثقافة السودانية من خلال “جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي” التي حكينا عنها أعلاه. تُرى، هل في تاريخ السودان من مديري الشركات – بكافة أنواعها – من أثّر في تاريخ الثقافة بمثل ما فعل الفريق الفاتح عروة؟ لا أظن. لا يوجد له مثيل. ذلك رجل فريد في تجاربه، وإدارته، واختراقاته، وتنوع اهتماماته. تلك بصماته في مجالات عديدة في تاريخ السودان، تلك البصمات والإسهامات التي ستبقى علامات مضيئة في تاريخ السودان ولزمن طويل.
10
لقد أعطى عروة هذا الشعب من وقته وفكره وجهده، بل وعمره، فكافأه الشعب بهذا الوداع، الذي شمل ثلاث قارات، ومدنًا طالما أحبّها وأحبّته…
لأسرته الصغيرة العزاء الواجب، وعزاؤنا ممتد، ولكل موظفي زين الذين عملوا معه، ولكل العسكريين والمثقفين والسفراء والوزراء ورفاقه الكُثُر الذين عملوا معه في شتى المجالات.
رحم الله صديقي، وصديق وأخ وأب الجميع، الفريق الفاتح عروة، وأسكنه فسيح جناته.