مقالات رأي

عادل الباز يكتب: سردية إبليس ….. عشية تنصيب التعيس!!

1
في مساء السبت الماضي، شهدت مدينة نيالا حدثًا بدا أشبه بالمسرحية الهزلية أكثر من كونه مشهدًا سياسيًا: تنصيب ما سُمِّي بـ حكومة “تأسيس”، على يد قائد الجنجويد الذي خرج على الناس بخطاب وُصف بـ “البرنامج الوطني”. في الخطاب، تحدث عن الوحدة والعدالة والديمقراطية والسلام، وكأن البلاد لم تُغرقها مليشياته في الدماء والحصار والتجويع. كان مشهدًا مكثفًا للتناقض الفج بين القول والفعل، بين الشعار والواقع، وبين صورة مُنمقة يراد تسويقها، وحقيقة مأساوية تعيشها المدن والقرى السودانية كل يوم. ومن هنا تبدأ سردية إبليس…
وهي سردية مضحكة حد البكاء… لا بد أن مؤلف هذا الخطاب الأخير الذي ألقاه التعيس هو من كتاب الكوميديا السوداء الهزيلة. الكوميديا السوداء (أو الكوميديا المظلمة) هي نوع من الكوميديا يتناول موضوعات جادة أو محرمة أو مأساوية بطريقة ساخرة وسوداوية، بهدف إثارة الضحك مع إبقاء التوتر الأخلاقي قائمًا. وهي تسخر من المآسي، العنف، الموت، الحرب، الفقر، أو حتى الانتحار، بطريقة تجعل المتلقي يضحك رغم فداحة الموضوع. انظر لهذا أدناه، إلى نص التعيس، وإلى المفارقات المضحكة التي يتسربل بها!!
2
قال التعيس ليلة السبت: “تحقيق الوحدة العادلة في جميع أنحاء البلاد عبر تطبيق الحكم اللامركزي”، مشددًا على أنه يسعى لوضع “نهاية الشمولية والدكتاتورية، وإقامة دولة مدنية علمانية ديمقراطية”.
ابن الشمولية البار يعد بأنه سيضع نهاية لها، وهو الذي لولاها لما كان شيئًا مذكورًا. يا له من جاحد! النظام الذي أوجده من العدم خانه ضحى، والآن نظريًا يعلن عزمه على وضع نهاية له في السودان.
ترى، هل يفهم هذا التعيس الفرق بين النظام الشمولي و”شملة كنيزة”؟! ثم قال إنه يرغب في إقامة دولة “مدنية علمانية ديمقراطية”. لو سُئل هذا التعيس عن معنى أي مفردة من هذه الكلمات التي يتشدق بها، لما استطاع التفوه بكلمة واحدة عن ما هي المدنية ولا العلمانية ولا الديمقراطية. من كتب هذا الهراء وضعه على لسان التعيس، جعله مضحكة للسامعين. وهو تمامًا بمثابة وضع مفردات فلسفة أرسطو في فم عبد الرحيم دقلو!! او كأنك تسمع جلادًا يتلو آيات الرحمة، أو ذئبًا يعظ بالخُرافة عن فضائل العشب الأخضر.!!
3
في جانب آخر من خطاب تأسيس المهزلة قال التعيس: “ضرورة العدالة التاريخية والمحاسبة على الانتهاكات التي ارتُكبت منذ الاستقلال”.
بالله شوف… هل هناك من ارتكب جرائم حرب وإبادة وانتهاكات في تاريخ السودان مثل ما فعل هذا الجنجويدي الأخير؟ وذلك منذ ما قبل الاستقلال، وما بعد كتلة المتمة (يوليو 1897م)، أي منذ إبادة الجعليين إلى إبادة المساليت (2023) في حرب الجنجويدي الأخيرة هذه! على من يضحك هذا التعيس… على الشعب أم على نفسه؟ أم أن كتبة الأُرضحالات هذه يضحكون عليه، وهو كالببغاء يردد ما يُكتب وعقله في أذنيه!!
4
قال الجنجويدي التعيس في خطابه في الليلة ديك: “وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لإيصال المساعدات لجميع السودانيين في أي مكان داخل البلاد”، متعهدًا – وفق قوله – بـ“السماح بمرور المساعدات وحماية القوافل والعاملين على توصيلها لجميع المحتاجين”.
تصوروا مستوى هذه الأكاذيب التي تثير الغثيان… والذي ينثر هذا الهراء هو نفسه من يحاصر الآن سكان الفاشر حد الجوع والموت، وهو نفسه من يحاصر الدلنج وكادوقلي ويمنع عنها الدواء والغذاء، ولا يستجيب لأي نداء أو قرار دولي بفك الحصار، ويمنع أيًّا من المنظمات الطوعية – التي تتكدس مخازنها بالأغذية والأدوية – من توصيلها للمحتاجين. ثم يتحدث بصفاقة عن تعهده بالسماح للمنظمات بالوصول للمحتاجين!! هو نفسه الذي يقصف قوافل الإغاثة بالطائرة المسيّرة، وينهب مخازن الأمم المتحدة، ويقتل العاملين فيها. على من يكذب!!
5
أما أكثر فقرات الخطاب سوداوية وإثارة للضحك والغثيان والنسيان، فهو إعلانه: “التزام قواته بالمواثيق الدولية وحسن الجوار، وبناء علاقات خارجية قائمة على أسس المصالح المشتركة وتحقيق السلم والأمن الدوليين”.
أي مواثيق تلك التي يتحدث عنها التعيس؟ تلك التي وقع عليها في جدة، متعهدًا بإخلاء المناطق السكنية والمستشفيات والأعيان المدنية، ثم رفض الالتزام بها جميعًا حتى أخرجته قواتنا الباسلة بالقوة مُعَرَّدا! أي مواثيق تلك التي تتيح الإبادة وجرائم الحرب وقتل الأسرى ونهب ممتلكات الناس وإباحة الاغتصاب والخطف والاسترقاق!! الغريب أن العالم الذي يفيض بالتفاهة يستمع لمثل هذا الخطاب ولا يقول بغم، لأن كفيل الجنجويد يحشو فمه بالدراهم الحرام.
6
وأخيرًا، وفي مساء ذات السبت الأسود الذي يشبه خطابه، قال: “إن إعلان تشكيل الحكومة الجديدة يهدف إلى ما سماه تحقيق السلام وإنهاء الحروب الطويلة ومعاناة السودانيين”.
الجنجويدي الذي خاض أسوأ الحروب في تاريخ السودان، وشن على السودان كله حربه الأخيرة، وسبب معاناة لا توصف لمئات الملايين من المواطنين، يتجرأ بالكلام عن السلام! ويعلن عن حكومة باسمة، وبلا أدنى حياء يتحدث عن إنهاء معاناة السودانيين!! يا له من جنجويد غبي ينشد “الهدى دومًا ويركب قطارات الضلال”.
هكذا، يطل إبليس عشية التنصيب بوجه التعيس، يوزع وعوده كما يوزع الموت، يتحدث عن العدالة وهو غارق في الدماء، وعن السلام وهو يطحن المدن حصارًا وقصفًا، وعن المدنية وهو يركب دبابات المليشيا. إنه خطاب لا يُقرأ، بل يُضحك من شدّة البكاء، ويُبكي من فجاجة السخرية. هي سردية إبليس… حين يعد بالجنة وهو يفتح أبواب الجحيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى