فيما أرى
عادل الباز
المبادرة.. مأزق تركيا!! (2-2)
1
في ختام الحلقة الأولى من هذا المقال تساءلت: لماذا زجّت تركيا بنفسها في سوق المبادرات، ذلك السوق الكاسد؟ أنا مشفق على تركيا لأنها تورطت في ملف يستحيل أن تحقق فيه اختراقاً. لماذا؟ ببساطة، تركيا لن تستطيع أن تكون محايدة. كيف ولماذا؟
2
أولًا: لابد أنكم تذكرون أن تركيا أجهضت في العام 2016 أخطر انقلاب ضد الرئيس أردوغان وحكم العدالة والتنمية، ورأيتم ما جرى من سحق شامل لعناصر الانقلاب في الجيش والمتعاونين معهم في الخدمة المدنية، ومن ضمنهم أعضاء منظمة غولن الذين كانوا دولة داخل دولة، تمامًا مثل عصابات الجنجويد في السودان. وهكذا، من التجربة التركية نفسها، فإن أي انقلاب كانقلاب الدعم السريع على الجيش لابد أن يُجرى سحقه وسحق المتعاونين معه مثل (تقدم). ولا يمكن لتركيا أن تكون محايدة وتعمل بازدواجية معايير، فالانقلاب أينما كان هو انقلاب، والعملاء والخونة هم عملاء وخونة في أي مكان. لذا، يجب أن يكون المقياس واحدًا. ولا يمكن لتركيا إلا أن تنحاز للجيش السوداني الذي يتبع خطها في سحق الانقلابيين، ولا يمكن أن تطرح عليه التعايش مع الانقلابيين والخونة، وإلا ستكون تناقض نفسها وتفقد وقتها احترامها.
ثانيًا: تقف تركيا موقفًا غاية في التطرف من وحدات حماية الشعب الكردية، وتعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المحظور، الذي حمل السلاح ضد الدولة التركية منذ عام 1984. وتُصنف تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية. خلال كلمة في فعالية المؤتمر الإقليمي الثامن لحزب العدالة والتنمية الحاكم خلال الشهر الماضي، قال الرئيس أردوغان: (انتهت فترة استخدام المنظمات الإرهابية الانفصالية… إما أن يَدفن الإرهابيون أسلحتهم، أو أنهم سيُدفنون مع أسلحتهم تحت الأرض… لا يوجد طريق ثالث للمنظمات الإرهابية).
يعني ذلك أن تركيا التي تشن حربًا معلنة على وحدات حماية الشعب الكردية بسبب أنها مجموعة متمردة مدعومة من الخارج (الغرب تحديدًا) بالسلاح، وكانت سوريا الأسد توفر لها ملاذًا آمنًا تتدرب فيه وتتشوّن منه لتهاجم تركيا، تمامًا كما يحدث الآن مع الجنجويد؛ إذ تتعهدهم الإمارات (الغرب) بالرعاية والتزويد بالسلاح من أم جرس، وتوفر لهم تشاد ملاذًا آمنًا يتزوّدون منه ويقيمون مراكز تدريب للمرتزقة القادمين من أصقاع الأرض.
جنجويد السودان هم مثل وحدات الحماية الكردية، فكلاهما مهددان للأمن القومي للبلدين. وبما أن تركيا ضد أي محاولة للتقارب مع المتمردين العملاء الإرهابيين من وحدات الشعب، وتسعى لدفنهم مع أسلحتهم، فإنها لابد أن تدرك أن السودان سيتعامل بذات النهج التركي مع مَنْ يهددون أمنه، ولا يمكن إلا أن تكون تركيا منحازة للجيش السوداني في سعيه لإنهاء مهدد لأمنه القومي. تركيا لا ينبغي لها إلا أن توافق على دفن الجنجويد مع أسلحة الإمارات في مقبرة واحدة مع وحدات حماية الشعب، لأنهم إرهابيون وعملاء ومهددون لأمن السودان القومي كما هى تفعل مع (قسد)!!
3
ثالثًا: ساعدت تركيا من قبل في هزيمة تمرد حفتر على الحكومة الليبية الشرعية التي يعترف بها العالم، ذلك التمرد الذي وصل أحياء طرابلس. وبفضل الأسلحة والخبراء الأتراك تمت هزيمة حفتر وعاد أدراجه مستعصمًا ببنغازي. الآن، من باب أولى أن تساعد تركيا أردوغان السودان على دحر تمرد حميدتي على الحكومة الشرعية في السودان، والتي تعترف بها تركيا. فإذا لم تساعد، وباعت لنا البيرقدار بحر مالنا بعد تردد، والتي لا زالت إشكالات تشغيلها بكفاءة لم تُحل، فعلى الأقل لا تقف تركيا موقف المحايد أو الوسيط بين طرفين. ذلك يوقعها في تناقض مبدئي؛ فكيف تساعد في دحر تمرد حفتر في ليبيا، وتفرش النمارق وتفتح قاعات المفاوضات لتمرد حميدتي في السودان؟! إنها ورطة ثالثة.
رابعًا: ساهمت تركيا أيضًا في دحر تمرد التقراي في إثيوبيا، الذي وصل إلى أطراف أديس أبابا، وذلك تم بفضل مسيرات البيرقدار التركية التي وفرتها الإمارات بعلاقتها مع تركيا للحفاظ على صديقها آبي أحمد في إثيوبيا. تمرد التقراي تمامًا مثل تمرد آل دقلو على الدولة السودانية. فتركيا مطالبة باتخاذ ذات الموقف، وهو المساهمة في دحر تمرد آل دقلو، على الأقل ليكون لها موقف شامل ضد أي تمرد، سواء كان مهددًا لتركيا نفسها أو مهددًا لليبيا أو مهددًا لإثيوبيا والسودان، وإلا ستجد نفسها في موقف متناقض لا يليق بها.
هناك إشكال أيضًا يتعلق بالإمارات التي تسعى لإنقاذ نفسها والمتمردين بغير ثمن! الإمارات لا تود أن تدفع ثمن جرائمها، بل تسعى لوقف إطلاق النار وإعادة الميليشيا إلى سابق عهدها في سدة الدولة السودانية. وهيهات! لن تتمكن تركيا من إقناع الحكومة السودانية أن تتيح للإمارات فرصة الهروب بجرائمها مجانًا، ولن تستطيع إقناع الإمارات بدفع تعويضات بمليارات الدولارات ثمنًا لنجاتها من المحاكم الدولية واصلاح سمعتها عالميًا.
5
إذا أرادت تركيا الخروج من المأزق، لابد لها أن تقف موقف حكومة السودان الداعي لتنفيذ بنود إعلان جدة قبل أي وساطة جديدة. وإذا فعلت ذلك، ستُعتبر منحازة للحكومة السودانية، وقتها ستنسف مبادرتها، لأن الميليشيا لن توافق على إنفاذ إعلان جدة. وإذا أرادت تجاوز إعلان جدة، ستفشل كما فشلت أمريكا في جنيف، لأن الحكومة وكل الشعب السوداني لن يوافقوا على توقيع اتفاق مع المتمردين، وهم يحتلون بيوت المواطنين ومدنهم ومزارعهم ويدمرون كل مظاهر الحياة المدنية في البلاد.
إذا ارادت تركيا مساعدتنا عليها ان تقنع المليشيا بتنفيذ إعلان جدة ، اوتقنع الامارات بالتوقف عن إمداد المتمردين بالسلاح ودفع تعويضات لضحايا حربها على السودانيين، وإذا لم تقدر على كل ذلك فيجب عليها إعانتنا على دفن الجنجويد مع أسلحتهم وداعميهم، تمامًا كما تسعى لدفن وحدات حماية الشعب التركي.