لا أدري لماذا تتخوف بعض القوى السياسية السودانية من التعاطي الإيجابي مع الانتخابات، وتعتبرها هاجساً يؤرق مضجعها، وفوبيا تفزع يقظتها قبل منامها؟ ألا يفترض في هذه القوى السياسية أن تكون الأكثر حرصاً من المؤسسة العسكرية، على الدعوة لقيام الانتخابات، والاضطلاع بدور محوري، يهيئ البلاد لإجراء هذه الممارسة المستندة على السيادة الشعبية والجماهيرية، والقادرة على بلورة مفاهيم الانتقال السلس والمنطقي للسلطة، من خلال تحقيق مبدأ التحول الديمقراطي والتبادل السلمي الذي يعزز من استقرار الحكم؟.
لم تكن الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة التغيير التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير هي الأولى التي يشهدها السودان، فقد مرّت البلاد بفترة انتقالية مماثلة عقب انتفاضة أبريل التي أودت بحكم الرئيس جعفر نميري في العام ١٩٨٥م، والتي كانت بمثابة حالة (سودانوية) خالصة وخاصة، قدمت تجربةً مدهشة في إرادة الشعوب على كسر قيود الكبت والقمع، ومواجهة الطغم الديكتاتورية، لتعيد انتفاضة أبريل، إنتاج النموذج الفريد الذي قدمته ثورة أكتوبر ١٩٦٤م ضد حكم الفريق إبراهيم عبود، وفي المقابل قدم المشير عبد الرحمن سوار الذهب رحمة الله عليه، درساً بليغاً في الفترة الانتقالية التي أعقبت انتفاضة أبريل، عندما أوفى بتعهد الجيش والتزامه بتسليم السلطة للمدنيين بنهاية الفترة الانتقالية التي كان عمرها عاماً واحدا.
ولكن شتان ما بين الفترة الانتقالية التي أعقبت انتفاضة أبريل ١٩٨٥م، والفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر ٢٠١٨م، ففي الوقت الذي كانت فيه القوى السياسية حريصة على إجراء الانتخابات وإحداث التحول الديمقراطي في العام ١٩٨٥م، نجد العكس تماماً في الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر ٢٠١٨م، فقد انشغلت قوى الحرية والتغيير التي احتضنت الثورة بتصفية حساباتها مع حكم الإنقاذ البائد، وبدأت تؤسس لحكم طويل الأمـد، أظهرت خلاله خللاً بايناً في التجربة، وضعفاً في الخبرة، أدى إلى فشل ذريع في ممارسة حكمٍ اتسم بالفوضى والارتباك، انزلقت فيه البلاد إلى هاوية من الاستقطاب والاحتقان الحاد، وتلبّدت سموات المشهد السياسي بغيوم من الغُبن وخطاب الكراهية، التي سرعان ما تحولت إلى سيول جارفة من حرب ودمار أتت على البلاد تنقصها من أطرافها.
ولعل الأدهى والأمر أن القحاتة الذين أضاعوا فرصة تأريخية لبناء سودان جديد قائم على أسس الحرية والسلام والعدالة، وساهموا بقدر متعاظم في إشعال فتيل الحرب، يحاولون تحت مسمى “تقدم” أن يتقدموا ليتصدروا المشهد في مرحلة ما بعد الحرب، ويدعون من جديد إلى العودة إلى منصة التأسيس وتغبيش وعي الجماهير بالحكم المدني (مدنياوووووو) الذي يستغلونه مطيةً للهيمنة والإقصاء، وإعادة ذات السيناريو، الذي قاد البلاد إلى الاحتماء بصناديق الذخيرة بدلاً عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع! وصحيح الاختشوا ماتوا!!