فيما أرى
عاجل الباز
المواقف المتحولة.. مالجديد؟
1
بدت زيارة الرئيس البرهان لكل من كينيا وأديس أبابا وزيارة الفريق كباشي للإمارات، والتي لم يعلن عنها رغم أن تسريبات الزيارة جاءت من الجانب الإماراتي، بل الدعوة أصلها لخروج الفريق كباشي من الخرطوم إماراتية!
بدأت تلك الزيارات التي جرت تحت لافتة (التباحث حول الأزمة السودانية) غريبة في توقيتها، ولماذا الآن وما هي العناصر المتحولة التي دفعت لإجراء هذه اللقاءات اللاهثة، تم طرح تساؤلات كثيرة…. ماذا وراء الأكمة؟
2
غرابة تلك الزيارات أنها تأتي في وقت توقف فيه منبر جدة رسمياً، وإنْ كانت المعلومات المؤكدة تقول إن التفاوض في المنبر لا يزال مستمراً تحت.. تحت.!!. على كلٍ، نحاول هنا أن نفهم ما وراء تلك الزيارة وطبيعة التحولات الجارية في الأزمة السودانية في الإقليمين الإفريقي والعربي.
3
التحول في الموقف الكيني يكاد يكون مفهوماً، إذ إن مواقف الرئيس الكيني وليام روتو والذي اتخذها عقب اندلاع الحرب في الخرطوم المنحازة للجنجويد كانت تعتمد أساساً على تقرير المعارضة المزيفة، والتي أكدت له انتصار قوات المتمردين الوشيك على الجيش السوداني، وكذلك علاقات المصالح التي تربط الرئيس الكيني بزعيم المتمردين، كان قابلاً لتصديق أوهام المعارضة التي تتخذ من نيروبي الآن مركز نشاطها المعادي للسودان حتى الآن.
4
حين طال أمد الحرب قليلاً، واتضح أن مؤامرة للاستيلاء على السلطة قد فشلت، وأن الجيش يمسك بزمام الأمور في البلد، سارع الرئيس روتو لجمع الإيقاد التي طالبت فوراً بوقف القتال دون أي اتفاق، مما يعني حماية المتمردين من الهزيمة المرتقبة، وعندما رفض السودان دعوة الإيقاد ومعها رئاسة كينيا، هرع الرئيس روتو متحالفاً مع الرئيس الأثيوبي آبي أحمد لنقل الملف بذات المقترحات والاشتراطات للاتحاد الإفريقي.
وعندما فشل كامل المخطط وبدا أن انتصار الدعم السريع فى الحرب ماهو إلا مجرد وهم، وأن منظمة الإيقاد نفسها أصبحت في خطر الانقسام تبعاً للموقف السوداني والجيبوتي لاحقاً، وجنوب السودان كذلك، انسحبت كينيا بهدوء من دعوتها الغريبة.
5
بدأت دبلوماسية الأبواب الخلفية منذ حين، وجرت محاولات عدة لتصحيح الموقف الكيني بواسطة دول لها علاقات وثيقة مع السودان (محاولة سلفاكير)، وأخيراً طلب الرئيس روتو من القائد مناوي أن يرتب له لقاء مع الرئيس البرهان الذي كان رافضاً أي لقاء يجمعه به، واستطاع مناوي أخيراً إقناع الرئيس البرهان، مؤكداً له أن لدى الرئيس الكيني موقف جديد.
6
تم ترتيب اللقاء خلال الأسبوع الماضي في نيروبي وشرح الرئيس طبيعة الحرب وتطوراتها، مشيراً لموقف كينيا الداعم للتمرد وردود فعل السودان على موقفها ذاك. كانت مشاركة مناوي في الاجتماع إيجابية للغاية إذ نبه الرئيس الكيني إلى مخاطر دعم التمرد وممارساته في دارفور من قتل وتشريد وإبادة لبعض القبائل الإفريقية. استغرب الرئيس الكيني من كثير من المعلومات التي تلقاها في الاجتماع من الفظائع التي ارتكبها المتمردون، إضافة لجهلة بنشاط المعارضة السودانية المتنامي في نيروبي وعد بتصحيح الأوضاع. وأشار إلى أنه سيدعو الإيقاد لاجتماع لإعادة النظر في الموقف الأمريكي من الأزمة السودانية.
7
في السياق نفسه وبناء على ذات المعطيات والوساطات تم لقاء آبي أحمد وجرى كشف جميع الأوراق وتمت الإشارة إلى الموقف الإثيوبي المتطرف لصالح التمرد واستقباله لوفود المتمردين والمعارضين للحكومة السودانية، بل وصل الأمر به إلى عدم الاعتراف بالحكومة نفسها وحظر السلاح عنها.
التحولات في الموقفين الكيني والإثيوبي تم بناء على ثلاثة معطيات، الأول هو التقدم المحرز فى جبهة القتال مما لا يدع مجالاً للشك أن الجيش مقبل على انتصار باهر على المتمردين ودحرهم نهائياً. وفي الخطاب الأخير للمتمرد عبد الرحيم دقلو اتضحت الحيرة والمأزق الذي تعانيه قوات التمرد والذي كان في آخر لقاءاته بزالنجي يبشر بتحرير السودان، لكنه عاد لمداهنة الرئيس البرهان بخطاب تصالحي محير. وكانت بالأمس الأول حيرته وخيبته الكبيرة فى الضعين حين رفضت الإدارات الأهلية مهاجمة الضعين مهددة بسحب أبناء الرزيقات من الدعم السريع، يعني ذلك أن بقية مدن دارفور لن يكون استسلامها سهلاً لتعيث فيها عناصر الجنجويد والمرتزقة فساداً، فالذي حرمه أهل الضعين لن يقبل به أي من سكان مدن دارفور الأخرى، وخاصة أنه اتضح للجميع عجز المتمردين عن إدارة المدن التي استولوا عليها، إذ لم تتمكن من إدارتها وإبادت سكانها (كما جرى في الجنينة).
وكل المدن التي دخلتها خرج منها الناس أفواجاً فمن يضمن سلامته تحت حكم الهمج.!!.خطط المتمردون السيطرة على كل دارفور والزحف نحو الخرطوم… فإذا بهم يقعون في شرك دارفور فلم يستطيعوا السيطرة عليه، وانقلبت عليهم أغلب وأكبر قبائلها ضدهم. الآن أصبح المساليت ضد الجنجويد تماماً، وأعلن مجلس الزغاوة انحيازهم للقوات المسلحة، واليوم أعلنت الحركات خوضها المعركة ضد الجنجويد والفور أصلاً ضدهم ولا يثقون بهم. هكذا خسر التمرد أكبر قبائل دارفور وخسر معركة الخرطوم وخسر من قبل كل السودان الشمالي وكردفان.وانتهى به الأمر لتمرد منبوذ من كل أهل السودان الذين عملت فيه أسلحته وجنوده فيهم تقتيلاً ونهباً واغتصابا.
المعطى الثالث الذي تسبب في هذا التحول، هو العمل الدبلوماسي الصبور والدؤوب بين الرؤساء الأفارقة بمساعدة بعض الأصدقاء في التأثير على الموقف الإفريقي.
8
المعطى الأخير هو تحول الرأي العام الدولي تجاه الأزمة، بعد الجرائم التي ارتكبتها قوات التمرد وضجت بها الصحافة العالمية بما أسمته (الإبادة الثانية) التي تتعرض لها القبائل الإفريقية على يد الجنجويد مرة أخرى.
9
التحرك الذي بدا غير مفهوم، هو تحرك الفريق كباشي تجاه الإمارات التي لا تزال تدعم التمرد، فخروج الفريق كباشي من الخرطوم لم يكن مفهوماً في ظل وجود الرئيس البرهان بالخارج والمعارك مشتعلة في الخرطوم، ثم جاءت زيارته للإمارات لتزيد الأمر غموضاً. يدرك الفريق كباشي أن أي صفقة تحت الترابيزة لإنقاذ التمرد لن تكون مقبولة، لا للشعب السوداني ولا للجيش المتأهب للقضاء على التمرد، إذن ما هي طبيعة تلك الزيارة وما هي أجندة الإمارات في هذه المرحلة من الحرب. خاصة وأن الإمداد الإماراتي للتمرد على وشك التوقف بعد حسم الزغاوة أمرهم من الحرب مما يؤثر بشكل حاسم على مواقف حكومة تشاد التي ظلت معبراً لذلك الدعم من أم جرس وغيرها. هل هناك جديد في موقف الإمارات أم هي محاولة متناغمة مع محاولات القادة الأفارقة المتآمرين لوقف سحق المتمردين والبحث لهم عن حيلة تعيد تموضعها من جديد في الساحة العسكرية والسياسية …؟. وهيهات.
10
كل هذه التحولات التي تجري داخلياً وإقليمياً ودولياً تشي بأن الحرب في نهايتها وأن الخسران المبين لكل من المتمردين وحلفائهم بات وشيكاً. وأن التعاطي الإيجابي مع هذه التحويلات يجب أن يتم بحرص بحيث لا يتاح لتلك التحولات المستجدة في المواقف أن تحقق للمتمردين عن طريقة الخداع ماعجزوا عن تحقيقه في ميادين القتال.