خلال ثلاث سنوات، ابتداءً من 1992، كنت أمثل السودان في عملية شريان الحياة Operation Lifeline – Sudan، والتي كانت رئاسة عملياتها في نيروبي، حيث كنت دبلوماسياً.
وأتاحت لي تلك التجربة الاطلاع عن كثب على مرامي تلك العملية الخبيثة والتي أضرت بالسودان أيّما ضرر.
كان جوهر أهداف تلك العملية إحياء حركة قرنق، بل تقويتها في مقابل جيشنا؛ وكانت عملية متحيزة، بعيدة عن الطهر، رغم الادعاء أنها عملية إنسانية.
كانت الأمم المتحدة والدول العربية تعتبرها وقتها كأكبر عملية “إغاثة إنسانية” في العالم!!!
كانت ميزانيتها في العام حوالى 225 مليون دولار.
ويقول البعض: إن الميزانية في مراحل أخيرة زادت عن المليار من الدولارات.
وتضم تحت جناحها عشرات المنظمات؛ هذا غير المنظمات التي كانت تعمل “كِيري”.
إزاء فشل حكومة السيد الصادق المهدي في إطعام الجيش وتموينه، قام وزير الخارجية الأميركي شولتز بتهديد الصادق أن أمريكا ستتدخل بإنزال الأغذية من الجو دون موافقة حكومة السودان، فقبل السيد الصادق صاغراً بعملية شريان الحياة، التي نصت اتفاقيتها على أنها عملية إنسانية ترعاها الأمم المتحدة وتقدم الطعام لطرفي الصراع بحَيْدَة ودون تَحَيّز؛ وتقوم على إمداد الطعام عبر “ممرات آمنة” Tranquility corridors.
وقد أُخضع السيد الصادق لضغوط هائلة للقبول بها، بعد رفضه للعملية السابقة المُسماة عملية قوس قزح Operation Rainbow في 1986.
وهكذا كانت شريان الحياة كعقد إذعان Adhesion Contract.
وكان ذلك أول انتهاك صريح لسيادتنا.
وفُرض الأمر بطريقة أهل أثينا على خصومهم أهل ميلان، الذين فرضوا عليهم الاستسلام وسداد الجزية عن يدٍ وهم صاغرون قائلين:
“يفعل القوي ما يشاء، ويبقى الضعيف يتجرع معاناة ضعفه”
“the strong do what they can and the weak suffer what they must”.
وهكذا قعدت النخبة المُمسكة بأزمّة الأمور وقتها بكرامة شعب، بقبولهم بالعملية وهم يعلمون أن الذين يضغطون عليهم هم الغربيون، الذين ورثوا الظلم منذ ما قبل الحضارة الهيلينية؛ والذين قالت الدراسات: إن حضارتهم هي أكثر الحضارات قتلاً للبشر خلال ألف سنة.. وما أمر غزة مِنّا ببعيد.
معروف لدى المتابعين الارتباط بين الحكومات الغربية وعملية بناء شبكة المنظمات..
ومعروفة العلاقة الوثيقة بين هيئة المعونة الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية والتي تمت منذ إنشاء الوكالة في 1960م.
تجري السيطرة على المنظمات الإنسانية عبر التمويل الذي تخصصه المعونة لها.
وفي السنوات الماضية برز اتجاه لمزيد من تقوية العلاقة بين المعونة والاستخبارات وأفرع النخبة في الجيش الأمريكي، وسُمي هذا التوجه بـ «عسكرة» المعونة «Militarization of the Agency»، بغرض تسريع التغيير للحكومات التي ترغب الحكومة الأمريكية في «قلقلتها».
وكتب عن هذا بتفصيل المؤلف «William Blum».
ولعل أجود ما كُتب عن استغلال ما يُسمى “العمليات الإنسانية” هو كتاب Lords of Poverty الذي ألّفه غراهام هانكوك؛ والذي فضح تحيّز وفساد المنظمات، بما في ذلك منظمات الأمم المتحدة التي كانت تعمل في هذا المجال في منطقتنا في شرق أفريقيا، وشمل ذلك فساد عملية شريان الحياة ومحاباتها لحركة التمرد ومعاداتها لجيشنا وللشمال.
في عام 2009 كتب صديقنا الأستاذ محمد عثمان إبراهيم (مو) مقالاً حذر فيه من خطورة هذه المنظمات.
تحدث عن المساعدات المرتدة لأصحابها المانحين Boomerang Aid، التي أشرت إليها في مقالي السابق. وأفاد أن ميزانية المنظمات العاملة بالسودان وقتها تبلغ مليار وثمانمائة مليون دولار وكيف تهدرها في أمور لا تفيد الضحايا والفئات المستهدفة نظرياً.
استشهد محمد بما قالته أختنا دامبيسا مويو في كتابها Dead Aid والذي وصفته القارديان (19 فبراير 2009) بأنه يأتي في زمن شحت فيه كتب الأفكار الكبري التي تقدمها النساء، والذي فضحت فيه المنظمات وأكذوبة المساعدات الإنسانية لأفريقيا.
وأشار لانتقائية ما يسمى المجتمع الدولي، وخطورة مجتمع الإغاثة الدولي الذي يشابه المافيا ممثلاً لخطورته برد فعله إزاء واقعة طرد الحكومة لثلاثة عشر من موظفي المنظمات في السودان، فقامت عليها القيامة، هذا في وقت طرد فيه أسياس أفورقي (فم الذهب) كل المنظمات في أريتريا ولم يجلب لنفسه تلك الثورة المضرية (بل الخواجية) التي شنت على السودان.
في تقديري لأنهم يصنفون أريتريا كدولة مسيحية رغم غلبة سكانها المسلمين!!!
والأستاذ مو مثقف عميق الثقافة، وحكمٌ تُرضى حكومته.
وفي تجربتنا السودانية أيام الجنوب ضبطت منظمات تُزود التمرد بالسلاح،
وقد وثّقت المخابرات تهريب منظمة الصليب الأحمر ومنظمة ويرلد ڤيچن World Vision ومنظمة Norwegian Church Aid ومنظمة Christian Solidarity للسلاح للمتمردين ومدهم بأعتِدة عسكرية؛ هذا غير المنظمات غير المسجلة رسمياً في عملية شريان الحياة، والتي كانت تتسلل للجنوب من كينيا ويوغندا.
وقد شهدت وعايشت بنفسي تحيز موظفي الأمم المتحدة المشرفين على العملية ضد السودان.
وكان أهم ثلاث شخصيات في مكتب العملية بنيروبي في ذلك الوقت هم:
الأيرلندي فيليب أوبراين عن اليونسيف وهو منسق العملية Coordinator، وألماني ممثل لبرنامج الغذاء العالمي WFP اسمه هانوش، وفرنسي يسمى جون لوك سيبلو.. وثلاثتهم معادون لنا، يؤثرون حركة التمرد ويحابونها ببذل الإغاثات.
كان ذلك الثلاثي هو ما نَبّهني إلى أن حَيْدَة الموظفين الدوليين الغربيين إنما هي من أساطير السياسة الدولية.
📍السفير عبد الله الأزرق
—————————————
6 مارس 202