مقدمة
مما لا شك فيه استناداً لطبائع العمران في قيام الدول وسقوطها أن قيامة الأوطان ودوامها وثباتها واستقرارها هو في جوهره ارتكاز في بناء القوة وتراكمها وتحول الدولة من ساحة ملعب للآخرين إلى رقم صعب ولاعب أساسي في محيطها الحيوي وأن أول عوامل الردع وفرض المكانة هو بالأساس عامل القوة، ليس في حيازة أسبابها فحسب، وإنما بالتهديد الدائم بها مع صدق النية باللجوء إليها عندما يقع الخطر الوجودي على الدولة، وليس ذلك من باب الاستقواء ولا فرض الهيمنة، بل من باب الحفاظ على الاستقرار وصون السلم والأمن وفروض الدفاع عن الوطن. ويكون اللجوء إليها حيناً كرد فعل على فعل اعتداء، وجعل الطرف المعادي يبني حساباته ويقيم أولوياته ويدفعه نحو حسبان أخطار الخسارة، ويكون أحياناً أخرى فعلا احترازيا واستباقيا لمواجهة خطر اعتداء محضر ومتوقع خصوصاً عندما تمس قضايا الأمن القومي للسودان ولا تنفع الطرق الدبلوماسية لإزالة الخطر أو إقناع الجهة المعتدية على التراجع.
القوة هي القاعدة والأرضية الصلبة قبل أي اعتبار آخر للحفاظ على حيّز الأوطان، وعليها تقوم السياسة والدبلوماسية والتفاوض.
المفهوم الأوسع للقوة
وهنا لا نقصد القوة العسكرية فحسب، بل كل أنواع القوة من الموارد البشرية والمادية والثروات والنظام والبحث العلمي والعلاقات الدولية والهوية الوطنية والإعلام لكن كل ما سبق ستكون حصيلته صفرية بدون جيش مسلح ومنظم ووطني لأن ضعف التسليح ينفي إمكانية تحقيق وظيفة الردع ونفي التنظيم يحيل الجيوش إلى ما يشبه الميليشيات التي تقاد بعقلية عشائرية أو جهوية لا تنتمي لفكرة الدولة ونفي الوطنية يحوله إلى قوة تابعة للخارج يمكن أن تسلم سيادة الوطن وتحارب الشعب كما حصل في سورية.
بناء العقيدة القتالية لدى الجيوش سر بناء القوة:
يضاف إلى شروط التسليح والتنظيم والوطنية في الجيوش بناء العقيدة القتالية لدى الإنسان المقاتل وفي إرادة القتال والدفاع عن الحق عندما وحتى قبل أن تهدده الأخطار. العقيدة القتالية الراسخة والعميقة ببعدها الديني والقومي مهمة للغاية في حمل الإنسان على التضحية لأن التضحية هي مؤشر كبير لدى الشعوب على القوة، الشعوب التي ترفض التضحية من أجل السيادة والبقاء تغري الغزاة والطامعين لاجتياح بلدانهم
هكذا تُعلم التجارب، وهكذا يخبر التاريخ القديم والمعاصر والحديث والفلسفة الخلدونية في بناء الدول التي تتحدث عن الشعوب الفتية المؤمنة بفكرة ملهمة تحملهم على التضحية وبين الشعوب الآفلة من فضاء العمران والحضارة فكل الحضارات التي سقطت من سقوط فارس أمام الإسكندر المقدوني إلى سقوط روما أمام البرابرة إلى إسبارطة التي استكثرت من السلاح والعبيد أمام اليونان. كلها سقطت عندما فقدت شعوبها عقيدتها القتالية وفقدت رغبتها بالقتال بسبب سياسات حكامها ولم تسقط لنقص في الموارد المادية أو البشرية.
ليس ترفاً ولا تنظيراً سوق هذه الثوابت والأسس، لكن إذا كنا وسط إقليم تتصادم فيه كل قوى الكون، ولا تنقصنا مصادر القوة ولا وسائلها وإمكاناتها، ويحيطنا أعداء لا يفهمون الا لغة القوة.
السياسة والقوة أداتان لغاية واحدة ومساران لا ينفكان في إدارة الصراع:
لن تنجح الحلول السياسة ولن تفلح الجهود الدبلوماسية ولا جلسات الحوار والمفاوضات إن لم تكن قوياً مُهاباً يحسبون لك ألف حساب واكتشاف خصومك لوزنك السياسي الحقيقي والوزن السياسي لأي جماعة أو دولة هو مقادر قوتها الخشنة التي تستطيع تحريكها وحجم الكتلة الحرجة التي تمثلها وليس مجرد الخطاب السياسي المنمق والناضج والمقنع لأن الحق بلا قوة حمى مستباح يحرك شهوة الطامعين لاستلابه.
لا يفاوضونك إلا عندما يكونوا مأزومين متخبطين يهادنونك لالتقاط الأنفاس وشراء الوقت، وسرعان ما يعودون بعد انتعاشهم إلى غيهم وعبثيتهم، والتجارب ماثلة كثيرة متكررة، فكيف أنفحهم الأوكسيجين وأحقنهم بالطمأنينة وأعالجهم بالدبلوماسية؟ وأنا أعلم أنهم يتربصون بي؟ بدل أن أظهر لهم قوتي وحزمي وعزمي وأزرع في يقينهم جديتي في المقارعة قبل المطاوعة ولا أَهن ولا ألين لأني مستند إلى قوة بنيتها لأبني سلاماً قوياً مستداماً. فالحرب ليست لأجل الحرب، بل لأجل السلم، ومن أراد السلم عليه الاستعداد الدائم للحرب.
عندما يتأكد الخصم من غياب إرادة القتال عندك، لن يفاوضك بغير أسلوب الابتزاز ويماطلك ويثير لك القلاقل والفوضى ويهدد استقرارك كلما طلعت شمس، يأخذ منك أضعاف ما يعطيك ويشارطك على ما أعطاك من نزرٍ عسير. لذلك أقلع من فورك وغير أسلوب التفاوض بإفهام الخصم أنك جاهز للأسوأ وأنك مستعد للحرب مع أنها آخر حلقة في سلسلة السياسة، وأظهر له إمكانات قوة لديك أعددتها لترهب بها عدو الله وعدوك، وازرع في يقينه أنك بنيت المقاتل وشحنت النفوس للقتال. وبعدها فاوض لتكسب لا لتعطيه من كيسك، تخسر ويكسب.
السودان واستصلاح القوة الكامنة لديه:
بالرغم من كل الأزمات المفتعلة من الأيادي الخارجية لضرب وحدة السودان وتدمير جيشه وتبديد ثرواته وإفقاره لكن البلد الأوفر حظاً لكي يلعب دوراً إقليمياً على مستوى القارة الإفريقية صحيح أن هناك دولاً في الخليج العربي تمتلك الثروات لكنها تعاني أزمة سكانية بنيوية وتعاني من انعدام الأمن الغذائي والخطر الإيراني الذي يهددها باستمرار.
في الحالة السودانية أنت أمام بلد يبلغ 45 مليون نسمة ويتمتع بثروات زراعية وحيوانية متنوعة وأرض خصبة وثروة مائية ستكون في المستقبل نفط العالم كما يمتلك السودان ثروات باطنية الكثير منها لم يكشف بعد إضافة للموقع الجغرافي الهام والحساس حيث تربط السودان بين البحر الأحمر بوابة الصين إلى إفريقيا وبين وسط إفريقيا وبين شمال إفريقيا وجنوبها وهو ما يجعله محط اهتمام القوى الدولية والإقليمية وربما هذه الميزات المهمة وشعور الكثير من الدول بخطورة ما يمتلكه السودان تدفعهم لاستهداف استقراره ووحدته واستنزافه في الصراعات الداخلية لكي لا يتحول إلى قوة إقليمية و فاعل دولي .
القوة تصنع الهوية والعصبة
تظل الروابط العرقية والثقافية والجهوية روابط هشة في بناء الحامل الاجتماعي الحامل لمشروع الدولة في فترات الحروب وعدم الاستقرار فالناس بطبيعتها تبحث عن القوة والسلطة للاجتماع بها وتهرب من قوة أمر واقع متطفلة ومتوحشة، لذلك الناس بطبيعتها تحب أن تنتمي إلى الأقوى وهذا الأمر كما يحصل في الاجتماع يحصل حتى في الرياضة فالجمهور حتى في التشجيع يشجع النادي الأقوى الذي يحقق الانتصارات وكذلك في الاجتماع السياسي تميل الكتل الاجتماعية للانتماء إلى الأقوى بغض النظر إن كانت هذه القوة خيرية أم شريرة.
وعليه فإن المعول عليه في استعادة وحدة السودان واستقراره ليس القوى المدنية والأحزاب السياسية المرتبطة بالخارج ولا القوة العشائرية و لا الميليشيات المدعومة من الدول وغنما الجيش السودان الذي سيحتاجه الجميع للاحتماء به من حالة التوحش التي فرضتها قوى الفوضى والتخريب وعندما تلتحق هذه المجاميع من الميليشيات إلى العشائر أو الأحزاب بالجيش انحيازاً للقوة فإن ذلك سيكون مفيد باتجاهين، باتجاه تحقيق الاستقرار لأنها ستتحول إلى قوى منضبطة بقوة الجيش وستزيد من قوته لأنه ستقوم بما يطلبه منها الجيش لإظهار الولاء والشعور بالانتماء .
وهنا تظهر قوة الجيش بناء على تعريف القوة بأنها ” القدرة على حمل الآخرين لتنفيذ ما تريده منهم بالإكراه أو بالرضى “
خطوات في بناء القوة
تقوم القوة والسلطة على ثلاث أسس مركزية؛ احتكار العلاقات لأن احتكار العلاقات هو ما يضمن بناء التحالفات وتحييد الخصوم واحتكار الثروة والتحكم في توزيعها لأن إعادة توزيع الثروة بطريقة ما هو إعادة توزيع للقوة والسلطة واحتكار المعلومات لأن احتكار المعلومات هو الذي يحمينا من الانكشاف الأمني أمام خصومنا ويجعل الآخرين يفكرون دائماً أننا نخبئ لهم مفاجأة فيمنعهم ذلك من مهاجمتنا عندما نكون في حالة من الانشغال أو عدم الاستعداد لذلك فالجيش بحاجة إلى جهاز استخبارات محترف قادر على جمع المعلومات وتحليلها وتحويلها إلى استراتيجية كبرى ومنبر إعلامي للحرب النفسية وتضليل الخصوم بطريقة ضخ المعلومات المضللة وصناعة رأي عام يعبر عن وجهة نظر الجيش ومجموعة اقتصادية رديفة قادرة على تأمين الدخل للجيش وفريق دبلوماسي قادر على تبديد رواية الخصوم وتسويق رؤية الجيش لدى الإقليم والمجتمع الدولي .
بناء التحالفات السياسية والاجتماعية من القوى الداخلية في السودان وإشعار المتحالفين أنهم شركاء حقيقين للجيش في بناء الوطن وليسوا مجرد خدم وأدوات بيده لضرب خصومه وإشعارهم بالندية والفاعلية وهنا لابد من بناء هذه التحالفات على مستوى رجال الدين وشيوخ القبائل والتجار والمؤثرين الإعلاميين والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لتشكيل جبهة رديفة وموازية مع الجيش للقضاء على التمرد وتحقيق الاستقرار، وهذه التحالفات الداخلية ستكون بمثابة الرافعة التي سيتم استخدامها لبناء تحالفات خارجية بعد أن تشعر الدول بأن المجتمع السوداني بكافة أطيافه يقف في صف الجيش.
لا أحد يتحالف مع قوى أخرى إلا إذا شعر بحاجته لهذه القوة أو شعرت أن مصالحها ستتضرر إن لم تتحالف معنا وعليه فإن الجيش السوداني عليه أن يضمن هذه التحالفات من خلال تموضعه في عقدة مصالح القوى الداخلية والقوى الخارجية بحيث تدرك أن كل مصالحها في خطر إلا على مستوى جيد من العلاقات.
مع امتلاك الجيش لقوة اردع التي تمنع الاعتداء من خلال حسبة الخسائر المحتملة التي سيتكبدها الخصوم عليه كذلك تجنب معارك الاستنزاف فالمنظومات التي تهزم لا تهزم بالمعارك العسكرية فالهزيمة أحياناً لا تعني شيئاً بدون ضرب كمون القوة الذي يسمح للقوة المنهزمة بإعادة بناء نفسها والنصر العسكري قد لا يعني شيئاً إذا كانت تكلفة هذا النصر لا يمكن تعويضها وبالتالي فإن اللجوء إلى الحرب الهجينة غير التقليدية سيكون خياراً مناسباً في تجنب الجيش نصراً بطعم الهزيمة كما يحصل لروسيا اليوم التي تنتصر في أوكرانيا لكنه نصر كانت تكلفته تدمير الاقتصاد الروسي وإسقاطها في حرب لا نهاية قريبة لها.
الخاتمة
إن النظريات المثالية في العلاقات الدولية التي تنطلق من جعل القانون الدولي وأنظمة مجلس الأمن والأمم المتحدة أساساً لتفسير سلوك الدول وطريقاً لحل النزاعات الخارجية أو الداخلية لا تسعفنا أبداً في فهم مكانزما هذه العلاقات ولا معرفة طريقة إدارتها ولا كيف تتصرف الدول وكيف تبني التحالفات وتأخذ قرارتها ومواقفها من مناطق الصراعات.
إن النظرية الواقعية التي تشخص سلوك الدول بسلوك الكائنات الحيوية وتقيس تصرفاتها وفق قوتها ومصالحها هي النظرية الأقدر على مساعدتنا في فهم العلاقات الدولية، إن القانون الدولي لا يلجأ له إلا الضعفاء الذين لا يستطيعون الوقوف بوجه الأقوياء أو يلجأ لها الأقوياء لتشريع مصالحهم وتبرير عدوانهم.
وعليه فإن التحرك فقط وفق المسارات القانونية والرسمية في إدارة الصراع وبناء القوة لن يجدي في هذه الحروب الهجينة التي تستهدف السودان في كينونته