مقالات رأي

إبراهيم شقلاوي يكتب: السودان والتحركات الإقليمية المتصاعدة: قراءة في زيارة رئيس المخابرات المصرية.

السودان والتحركات الإقليمية المتصاعدة: قراءة في زيارة رئيس المخابرات المصرية.

لا يمكن النظر إلى زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى السودان أمس، بمعزل عن سياقاتها الزمانية والمكانية والسياسية. فالحدث وإن بدأ في ظاهره لقاءً بروتوكوليًا ورسالة ودّ وتعاون بين بلدين شقيقين، إلا أن التوقيت والأطراف الحاضرة والموقع الذي جرت فيه الزيارة-بورتسودان- تكشف عن دلالات متباينة وتشير إلى تحوّلات جارية في المشهد السوداني والإقليمي.

اللقاء الذي جمع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان برئيس المخابرات المصرية الوزير حسن محمود رشاد، في أول زيارة له للسودان عقب تقلده المنصب خلفًا لمدير المخابرات المصري السابق اللواء عباس كامل، حيث تقلّد رشاد المنصب في أكتوبر 2024، ووُصف حينها بـ”الرجل القوي” الذي جاء إلى المنصب وسط تعقيدات وتحديات كبيرة تعيشها المنطقة العربية.

السودان لا ينفصل عن هذه التحديات؛ ففي الأسابيع الماضية شهد السودان تغيرات لافتة على الأرض، حيث أعاد الجيش السوداني بسط سيطرته على القصر الجمهوري وعلى العاصمة الخرطوم، ممهِّدًا الأرض لعودة رمزية ومؤسسية للدولة إلى مقارها.

كذلك تأتي الزيارة عقب تطورات سياسية حيوية، أبرزها شكوى السودان ضد الإمارات، التي سيتم النظر فيها يوم الخميس القادم 10 أبريل 2025 أمام محكمة العدل الدولية. وقد قدم السودان شكوى ضد الإمارات، متهمًا إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، في ما يتعلق بدعمها لممارسات قوات الدعم السريع في غرب دارفور.

في هذا السياق تبرز الزيارة كمؤشر على إدراك القاهرة لتحوّل ميزان القوى، وإعادة تموضعها في المشهد السوداني، مما يعكس ضرورة التنسيق بين السودان ومصر في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، بما في ذلك ملف العلاقات مع الإمارات، الذي ربما جاءت القاهرة حاملة عرضًا بشأنه، بالنظر لموقف السودان الجيد في هذا الملف.

علاوة على ذلك، تأتي الزيارة في وقت حساس جدًا، عقب لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في القاهرة، حيث كان الملف السوداني حاضرًا، بالإضافة إلى الأوضاع في منطقتي الساحل والقرن الإفريقي. كما تزامنت مع تصريحات للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي ظل يؤكد حرص القاهرة على بقاء الدولة السودانية ووحدة الجيش السوداني، باعتبار أن استقرار السودان من استقرار مصر والمنطقة، مشيرًا إلى تكثيف التعاون الإقليمي لتعزيز الأمن والسلام. هذا بالإضافة إلى التنسيق المستمر بين القاهرة وواشنطن، الذي تواكب مع دعم مصر المتزايد للخرطوم.

اللقاء الذي جرى في بورتسودان، بحضور مدير جهاز المخابرات السوداني الفريق أحمد مفضل، يحمل دلالات رمزية قوية قد تشير إلى ترتيبات جديدة على الساحة السودانية. بالتوازي، يبقى البُعد الأمني حاسمًا في هذه الزيارة؛ فمصر التي تدرك تعقيدات المشهد السوداني، لا تنظر فقط إلى ملف العلاقات الثنائية بمعزل عن الأمن الإقليمي. الخرطوم وقد دخلت مرحلة إعادة ترتيب الداخل، تحتاج أيضًا إلى تأمين ظهرها الحدودي من أي اختراقات محتملة، وذلك في إشارة إلى تهديدات ميليشيا الدعم السريع لشمال السودان. ولهذا تبدو الرسالة الضمنية في هذا الجانب ذات اتجاهين: من القاهرة حرصٌ على ألا تُفاجأ بتطورات ميدانية لا تُناسب مصالحها، ومن الخرطوم تأكيدٌ على أن الدولة عادت لتمارس مهامها الأمنية والسياسية.

في ظل انتصارات متتالية للجيش السوداني في محاور رئيسية، أبرزها الخرطوم والجزيرة، سبق أن تقدمت الحكومة السودانية بخارطة طريق إلى الأمم المتحدة، تضع تصورًا دقيقًا للانتقال إلى المرحلة القادمة، عقب تعديل الوثيقة الدستورية للعام 2025، والتي تؤسس لمرحلة جديدة يديرها الجيش بحكومة كفاءات وطنية مستقلة، لاستعادة الأمن وتحقيق السلام للسودانيين. هذه الخارطة تعكس انتصارًا ميدانيًا، وتعبّر عن الانتقال من موقع رد الفعل إلى رسم معادلة البناء السياسي بشروط الدولة، لا تحت تهديد الميليشيا.

كما لا يمكن تجاهل التنسيق المستمر بين مصر والسودان على الصعيدين اللوجستي والإنساني، إضافة إلى استضافة مصر لمؤتمرات القوى السياسية السودانية. هذا الانخراط البنّاء يعكس قناعة راسخة في القاهرة بأن استقرار السودان جزء لا يتجزأ من أمنها القومي. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن هناك تحركات دبلوماسية هادفة نحو توحيد القوى السياسية السودانية، دعمًا للحوار السوداني-السوداني، في مسعى لتسريع عملية الانتقال إلى “اليوم التالي”.

في المقابل، قام الرئيس البرهان بزيارة إلى جدة عقب استعادة القصر الجمهوري، كمؤشر على تناغم متصاعد مع السعودية، التي أعلنت دعمها لوحدة السودان واستعدادها للمساهمة في إعادة الإعمار، مع استمرار دورها في دعم السودان لتحقيق السلام. هذه العلاقات مع السعودية تُظهر تحركًا إقليميًا متناسقًا يسعى إلى تحقيق استقرار مستدام في السودان.

الراهن السوداني لا يتوقف عند حدود حسم الحرب أو وقف إطلاق النار، بل يتجاوز ذلك نحو إعادة تعريف الدولة نفسها. فالتحدي اليوم ليس فقط في إسكات صوت البنادق، وإنما في هندسة معادلة أمنية وسياسية متماسكة يقودها الجيش، تمنع تكرار الانفجار وتعيد الثقة إلى المؤسسات. في هذا الإطار تصبح التحركات المصرية والسعودية، مدعومة بغطاء أممي، عناصر فاعلة في رسم ملامح المرحلة الجديدة، خصوصًا في ظل فتور الموقف الغربي وانقساماته.

يقف السودان اليوم في وضعٍ أفضل، حيث يتقاطع الميداني بالسياسي، والمحلي بالإقليمي. ومهما تعاظمت التحديات، فإن ما نراه من #وجه_الحقيقة هو أن وضوح الرؤية لدى القيادة السودانية، وتماسك التحالفات مع الفاعلين الإقليميين، وفي مقدمتهم مصر، يمثلان ركيزة حيوية في معركة السلام. فالحرب وحدها لا تصنع الدولة، لكن السلام المفروض من موقع القوة قد يكون الخطوة الأولى نحو وطنٍ معافى، متماسك، وقادر على استعادة دوره في محيطه العربي والأفريقي.

دمتم بخير وعافية.

الأربعاء 9 أبريل 2025 م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى