
كَمْ أَشْعُرُ بِعَجْزِي وَأَنَا أَكْتُبُ عَنِ الفَاشِرِ؟
فَهِيَ لَيْسَتْ مَدِينَةً تُوْصَفُ، بَلْ مَلْحَمَةٌ تُتْلَى، وَسَفَرُ مَجْدٍ كُتِبَ بِدِمَاءِ وَتَضْحِيَاتٍ عِظَامٍ، هِيَ شُمُوخُ التَّارِيخِ، وَبُطُولَةُ الحَاضِرِ، وَوَعْدُ المُسْتَقْبَلِ، مَدِينَةٌ يَتَقَاصَرُ دُونَهَا البَيَانُ، وَيَعْجِزُ عَنْ بُلُوغِ مَدَاهَا اللِّسَانُ..
كَيْفَ بِرَبِّكُمْ لِلْكَلِمَاتِ أَن تَصِفَ جَلَالَ المَوْقِفِ، وَعَظَمَةَ الصَّبْرِ، وَبَهَاءَ الثَّبَاتِ؟
حُقَّ لِلْبَلَاغَةِ أَنْ تَجْثُو أَمَامَهَا خَاشِعَةً، وَتَسْتَحِي المَعَانِي مِن مَجْدٍ فَاقَ الوَصْفَ وَاعْتَلَى المَقَامَ..
يَوْمًا مَا، سَيَرْوِي التَّارِيخُ سَفَرَ بَطُولَاتٍ عَظِيمَةٍ، كَانَ فِيهَا أَهْلُ الفَاشِرِ عَلَى ثُغُورِهِمْ قَائِمِينَ، وَقَد تَخَلَّى عَنْهُمْ أَهْلُ الدُّثُورِ وَالخُدُورِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الصَّادِقِينَ.
سَالَتْ دِمَاؤُهُمْ حَتَّى خَضَّبَتِ الأَثْرَى، وَجَاعَتْ بُطُونُهُمْ حَتَّى أَكَلُوا الشَّجَرَ وَشَدُّوا الحَجَرَ، وَفَقَدُوا الأَهْلَ وَالأَقْرِبِينَ حَتَّى بَاتُوا وَحْدَهُمْ… وَبَقُوا وَحْدَهُمْ حَتَّى تَنَاثَرَتْ أَوْصَالُهُمْ، وَهُمْ عَلَى رِبَاطِهِمْ مَا وَهَنُوا، وَفِي بَلَائِهِمْ مَا اسْتَكَانُوا.
رِجَالٌ صَدَقُوا اللَّهَ مَا عَاهَدُوهُ، فَصَدَّقَهُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ، عَاشُوا أَبْطَالًا يَحِيطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِنَفَقٍ مِنَ العَزِيمَةِ أَوْسَعَ مِن أَيِّ عَالَمٍ مُرْتَجِفٍ، وَاسْتَثْمَرُوا سَقْفَ المُمْكِنِ حَتَّى جَاوَزُوهُ،
كَمْ كُنَّا فِي فَرَاغٍ رَغْمَ انشِغَالِنَا بِهِمْ، وَكَمْ كَانُوا فِي انشِغَالهٍ بِلَا فَرَاغٍ.
عَامَيْنِ وَنِصْفٍ مِنَ الصَّمُودِ يَا فَاشِرُ السُّلطَانُ، مِئَتَا وَسَبْعٌ وَسِتُّونَ مَعْرَكَةً، مَرَّغَتْ أَنفَ الغَطْرَسَةِ وَالعُدْوَانِ الإِمَارَاتِيِّ فِي وَحْلِهَا، وَظَلَّتْ مَدِينَتُنَا صَامِدَةً، فَكَانَتْ سَبَبًا فِي نَكَسِهِمْ وَرَعْبِهِمْ وَزَعْزَعَةِ كِيَانِهِمْ، وَمَا يَرَاه غَيْرُنَا سُقُوطًا ، نَحنُ نَرَاهُ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، فَكُلُّ عَيْنٍ تَرَى مَا يُوَافِقُ طَبْعَهَا وَمَعدِنَهَا، فَالْمَهْزُومُ حَقًّا هُوَ الخَائِنُ لا المَغْدُورُ الَّذِي أُحِيطَ بِهِ. صَمُودٌ دَامَ عَامَيْنِ وَيَزِيدُ، وَثَبَاتٌ أُسْطُورِيٌّ عَلَى أَيْدِي شَبَابٍ وَنِسَاءِ وَأَطْفَالٍ وَشُيُوخٍ مُؤْمِنِينَ، تِلْكَ هِيَ عَنَاوِينُ النَّصْرِ الَّتِي لا يُخْطِئُهَا بَصَرٌ.
فَطُوبَى لِشُهَدَاءِ الفَاشِرِ، فَأَنْتُمْ لَسْتُمْ كَسَائِرِ الشُّهَدَاءِ، أَبْهَرْتُمْ العَالَمَ بِتَضْحِيَاتِكُمْ وَثَبَاتِكُمْ، وَسَتَخْلُدُ أَسْمَاؤُكُمْ فِي سَفَرِ التَّارِيخِ كَأَسْمَاءِ رَقِيمِ الكَهْفِ وَشُهَدَاءِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
أَيُّهَا الأَحْرَارُ:
نَقِفُ اليَوْمَ وَقْفَةَ عَزٍّ وَفَخَرٍ، نَرْفَعُ رَيَاتِ المَجْدِ لِأَرْوَاحِ شُهَدَاءِ الفَاشِرِ الأَبْرَارِ، الَّذِينَ امْتَزَجَ دَمُهُمْ الطَّاهِرُ بِتُرَابِ السُّودَانِ فَأَنْبَتَ كَرَامَةً وَصَمُودًا لا يَنْتَهِي.
وَاللَّهِ مَا هَانُوا عَلَى اللَّهِ، وَوَاللَّهِ مَا غَفَلَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ غَدَرَ بِهِمْ لِشَهِيدٍ، وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِهِمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَإِنَّهُ عَلَى الظَّالِمِينَ وَأَعْوَانِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ لَسَاخِطٌ غَاضِبٌ وَمِنْهُمْ جَبَّارٌ مُنْتَقِمٌ، وَسَيَعْلَمُ الجَمِيعُ صِدْقَ ذَلِكَ وَحَقِيقَتَهُ يَوْمَ فَوْزِ الفَائِزِينَ وَخُسْرَانِ الخَاسِرِينَ، وَمَا هُوَ عَلَى اللَّهِ بَعِيدٍ.
وَيُحَدِّثُونَكَ عَنِ الهُدْنَةِ!
أَيُّ هُدْنَةٍ تُبْنَى عَلَى جُمَاجِمِ الأَبْرِيَاءِ؟! أَيُّ هُدْنَةٍ تِلْكَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا طَمْسُ جَرِيمَةٍ اهْتَزَّ لَهَا الضَّمِيرُ الإِنْسَانِيُّ؟!
لَقَدْ أَزْعَجَهُم مِلَفُّ الفَاشِرِ حِينَ وَجَدَ مِنَ التَّأْيِيدِ الشَّعْبِيِّ وَالوَعْيِ العَالَمِيِّ مَا فَضَحَ بَاطِلَهُمْ وَكَشَفَ جَرَائِمَهُمْ، وَأَرَادُوا إِغْلَاقَهُ عَلَى عَجَلٍ بِغِطَاءٍ يُسَمُّونَهُ “الهُدْنَةُ” — قُلْ لَهُمْ إِنَّ الفَاشِرَ وَحْدَهَا كَانَتِ المَيْدَانَ وَالدَّلِيلَ وَكَفَى..
أَنَّ الهُدْنَةَ الَّتِي يُرَوِّجُ لَهَا الأَعْدَاءُ لَيْسَتْ إِلَّا غِطَاءً لِمَزِيدٍ مِنَ الغَدْرِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَأَنَّهَا بَابٌ لِخِدَاعِ العَالَمِ وَإِطَالَةِ عُمْرِ التَّمَرُّدِ. لِذَا نَقُولُهَا بِمَلْءِ الصَّوْتِ وَبِنَبْضِ القَلْبِ الثَّائِرِ: إِنَّ الشَّعْبَ السُّودَانِيَّ بِكُلِّ أَطْيَافِهِ وَمُكَوِّنَاتِهِ يَرْفُضُ الهُدْنَةَ رَفْضًا قَاطِعًا؛ لا تَنْسِيقَ، لا تَفَاوُضَ، لا لِقَاءَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ، وَلا مُصَافَحَةَ مَعَ مَن دَنَّسَ الأَرْضَ وَسَفَكَ الدَّمَ. هَذِهِ الهُدْنَةُ الَّتِي يُلَوِّحُ بِهَا لَا تُمثِّلُنَا، وَلَنْ تَمُرَّ مِن بَيْنِنَا، وَلَنْ نَضَعَ سِلَاحَنَا حَتَّى تَحْرِيرِ آخِرِ شِبْرٍ مِن أَرْضِنَا.
السَّلَامُ عَلَى صَفْوَةِ الأُمَرَاءِ وَنَخْبَةِ الشُّهَدَاءِ، سَهَّلَ اللَّهُ لَكُمْ الطَّرِيقَ إِلَى خُلُودِكُمْ المَوْعُودِ، وَنَعِيمًا فِيهِ لا يَنقَطِعُ بِصَفْقَةِ بَيْعٍ غَيْرِ خَاسِرَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ اشترى



